ثقافة "أوبرا كارمن" بمهرجان قرطاج الدولي: هل يطفئ العشق المجنون نار الغيرة والخيانة ويثأر من الطائر المتمرّد؟
من قال ان لهجتنا التونسية عاميتنا، دارجتنا ليست قادرة على اختراق الوجدان وغير متمكّنة من أن تتسرّب داخل الأعماق والأذهان لتحاكي أشهر الروايات وتناجي أسطع الملاحم الرومانسية المنقوشة بمسحة واقعية نقدية.
فمن خلال النسخة التونسية "مائة بالمائة" لأوبريت كارمن التي عرضت مساء أمس الأحد 21 جويلية 2024 بمسرح قرطاج الدولي نجح كل "صنّاعها" والساهرين على تقديمها لاول مرة باللهجة التونسية في إثبات أنّ تونس ولّادة للفن ناثرة للمحبة وراسمة لكل ألوان الحياة..
عند الساعة العاشرة وبعض دقائق اهتزت مدارج المسرح الأثري للإعلان عن حلول موكب العرض الفني الفرجوي الضخم الذي تقدّمته أركسترا سيمفونية تونسية بقيادة المايسترو فادي بن عثمان، ليروي عن طريق لوحات كوريغرافية متقنة وأصوات أوبرالية ميزو سوبرانية وتينورية عانقت السماء ملحمة تصارع فيها العشق الملعون بتشوّهات الخيانة والمتبوع بالتراجيديا والشقاء.
وانطلق العرض الذي شارك فيه 148 فنانا بينهم 17 راقصا و11 مطربا ومطربة على غرار حسّان الدوس وهيثم الحضيري ومروان بوحبل وزينب الشريف ونسرين مهبولي ومجد الشريف ومحمد علي الزوش وغيرهم الى جانب مشاركة 60 طفلا في العرض، انطلق في تطويع لوحات فنية أولى تماهت فيها المعزوفات السيمفونية بتمايل نغمات أجساد الراقصات والراقصين فكانت عبارة عن صور فنية سافرت بنا نحو عوالم سرمدية ملوّنة معبّقة بنسمات الحب والجنون وسكون الخيال.
وعلى ألحان معزوفة "الحب طائر متمرّد" والتي تعرف أيضا باسم Habanera أو رقصة هافانا، تصعد الفنانة مرام بوحبل على الركح لتجسيد شخصية كارمن الفتاة الغجرية المتمايلة تمرّدا على تقاليد مجتمعية إشبيلية تطوّق الحريّة التي ترسمها لكينونتها الثائرة الناحتة لشخصية متقلّبة الهوى والمشاعر تضع الحبّ مجرّد درج لتسلّق رغباتها ونزواتها..
في هذه الملحمة الغنائية، يلتطم دون خوسيه نافارو الذي يجسّد شخصيته الفنان حسّان الدوس برياح كارمن العاتية وموجاتها الجهنّمية كما تقول كارمن عن نفسها في إحدى فصول المسرحية الغنائية "أنا لست إبليس.. أنا جهنم الحمراء"، فيقع في شباكها وتحوّله إلى طائر كسر جناحه العشق المهزوم أمام عتبات خيانة كارمن له مع مصارع الثيران الماتادور إسكاميلو الذي جسّد شخصيته الفنان هيثم الحضيري.
وبين حلم البحث عن حب كارمن والرغبة في الانتصار والبكاء على الأطلال، يجسّد حسّان الدوس من خلال صوته الأوبرالي آمال الضابط الملتزم الذي يتوق لامتلاك قلب محبوبته فيتخلّى عن ذاته ومبادئه و قيمه وكلّ ماضيه من أجل الظفر بعشق الفتاة الغجرية اللعوب التي تناست تضحياته وتنازلاته لترتمي في أحضان مصارع الثيران الثريّ، وهو ما شكّل الحبكة الدرامية التي قادت فصول الحكاية نحو ديناميكية تراجيدية انتهت بمشهد مقتل كارمن على يد دون خوسيه ووقوعه وهو يصرخ ندما لما اقترفته نفسه الخائبة من ازهاق لروح حبيبته الحالمة بالتمرّد والتحرّر سواء كان ذلك بالحياة أو بالموت.
وهو ما جسّدته في آخر مشهد انبعثت فيه بعد مقتلها لتظهر كارمن من جديد على الركح، وهي تحمل فوق رأسها تاجا من الورود يزيّنه قماش أبيض شفاف حاكى بطوله مدى شغفها وسعيها إلى الرغبة الوحشية للانعتاق.
وهكذا تناوبت فصول المسرحية الغنائية وتتالت صفحاتها وتصاعدت أحداثها لتنصهر في قالب فني لغوي امتزجت فيه قوّة الأداء الصوتي واللحن الدّال وفتنة اللهجة التونسية وبلاغة الأداء الحركي وألوانه، وتماهت مع سحر الأنامل التي أعادت تطويع معزوفات سيمفونية خالدة روت تراجيديا الأحداث وأبرزت مكامن وقائعها دون أن ننسى ما غزلته مشاركة 60 طفلا/ة من "روحية فنية استثنائية" زادت من وحدة ورونق إحدى المشاهد التي اهتزّ لها الجمهور إعجابا وامتنانا.
على مدى الساعتين والنصف نجح فريق كارمن في شدّ أنفاس الجمهور الساكن على مدارج مسرح قرطاج الأثري، جمهور خاص لم يمنعه طول العرض (ساعتين ونصف) من الوفاء لكلّ تفاصيل ملحمة غنائية تراجيدية امتزج فيها العزف السيمفوني بالغناء الأوبرالي وباللوحات الكوريغرافية التي تماهت مع الأزياء الفلكلورية المعطّرة برائحة الأندلس وإشبيلية، فصفّق وهتف لها وابتسم إعجابا ووقف تقديرا وثناءً لأداء فني يليق بتاريخ المهرجان وعراقته.
ومن بين المعزوفات التي أثثها الأوركسترا السيمفوني التونسي خلال هذا العرض الفني وهي للموسيقي جورج بيزيه الذي اختار بأن تكون تجسيدا لتيمة الحبّ العمود الفقري لأوبريت كارمن رغم ما قابله من موت وتراجيديا، نذكر Les Toreadors وThe Dragoons of Alcala وHabanera وAragonaise...
وكارمن هي أوبرا من أربعة فصول حُبّرت سنة 1873، وألّف موسيقاها الفرنسي جورج بيزيه، وكتب كلماتها هنري مايلهاك ولودوفيك هاليفي عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب بروسر مريميه.
وقد أنتج مسرح أوبرا تونس هذا العرض وسهر على نجاح نسخته التونسية التي أشرف على الكوريغرافيا والإخراج الخاص بها سفيان أبو لقرع، بينما صدحت أصوات أوبرا تونس تألّقا تحت إشراف إلياس البلايقي...
منارة تليجاني